السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصة وعبرة في عقوق الوالدين
نشأ مدللا بين والديه، ومات والده وقامت أمه برعايته حتى كبر واشتد ساعده واستوى على سوقه، وأصبح رجلا وعمل في مجال التجارة حيث إن والده ترك له ثروة لا بأس بها، ودعوات الأم الطيبة ترافقه في كل مكان، ومع كل خطوة يخطوها تدعو له بالتوفيق فكثرت أمواله واتسعت تجارته.
وكانت أمه لا زالت ترعاه وتقوم بشؤونه وتفرح لفرحه وتحزن لحزنه وتواسيه وتحبب إليه الحياة وتحثه على العمل، فكانت هي السبب بعد الله – عز وجل – في هذه الثروة العظيمة التي يمتلكها، وهذه الشهرة التي اشتهر بها بين الناس، والأم لا تكمل فرحتها إلا بزواج ولدها لتفرح به وبأولاده، وتسعد معه بتكوين أسرة تكمل المشوار. وبحثت له عن بنت الحلال، ولكنه لم يرض بما أشارت إليه بهن أمه، بل اختار هو بنفسه وتزوج وفرح بزواجه ولكن فرحة أمه أكبر وأعظم، وأخذت الم تدعو ربها أن يرزق ولدها الذرية الصالحة لكي تفرح بهم وتسعد معهم، واستجاب الله تعالى لدعائها ورزق بولدين مطيعين له، فأحبهما أكثر من نفسه ورعاهما وسهر على راحتهما حتى كبرا وشبّا عن الطوق، وكبرت الأم وصارت بحاجة إلى من يرعاها ويقوم بشؤونها، ولكنه تأفف من ذلك، فرغم أنه الرجل صاحب الثروة الكبيرة والجاه العظيم، إلا أنه بخل على أمه بأن يجعل لها خادمة تقوم برعايتها، وتضايق من أمه، وفكر في وسيلة تريحه منها، فهو لا يطيق حتى أن ينظر إليها، ودفعه تفكيره إلى أن يودعها في دار العجزة.
فتبا له من ولد عاق كيف هانت عليه أمه أن يودعها في دار العجزة أين السهر؟، أين المعاناة؟، أين الصبر؟، أين الحنان؟، أين الرعاية؟... لقد ذهب كل هذا أدراج الرياح، أمك التي بذلت كل ما في وسعها من أجلك يكون هذا جزاؤها من ولدها لاوحيد؟! فتبا لك ألف مرة.
وذهب مرة لزيارة أحد أصدقائه ليبث له شكواه، وقال لصديقه وهو يندب حظه العاثر: تصور يا أخي ما أن أودعت والدتي دار العجزة، ورعاية المسنين حتى لامني الكثير من الأهل والأقارب والبعيد والقريب ممن أعرفهم، فأجابه صديقه مندهشا: ماذا تقصد بوالدتك التي أودعتها دار العجزة؟!، هل هي أمك التي حملتك؟، أمك فلانة التي ربتك صغيرا، ورعتك كبيرا؟ أم لديك أم غيرها؟!
قال: "بل هي أمي فلانة!!، فما العجب في ذلك؟، وقد افتتحت الحكومة هذه الدار لأمثالها".
فقال صديقه: "يا سبحان الله... اللهم ارفع مقتك وغضبك عنَّا... هل ضقت بوالدتك ذرعا وأنت صاحب المال والجاه والثروة الواسعة والتي آلت إليك بسبب دعواتها لك بالتوفيق، عد إلى رشدك يا رجل، واستغفر الله واذهب إلى أمك وقبِّل قدميها، واسأل الله التوبة والمغفرة، واطلب الصفح منها، وعد بها إلى البيت وهيِّء لها من يقوم بخدمتها، واعمل على سعادتها وراحتها، أما إن كان الذي فعلته رغبة حرمكم المصون، فلم أعلم أنك مطيَّة بين الرجال، بل عرفتك رجلا".
ولما سمع من صديقه هذا الكلام الصادق ضاق وهاج وماج وقال: "يا أخي إن كنت ستزيد من آلامي فأنا في غنى عن معرفتك".
فقال له صديقه: "هذا لا يشرفني من ابن عاق مثلك فصداقة أمثالك عار".
ومرت الأيام وأمه ملقاة في دار العجزة لا أحد يزورها، وهي تعاني من آلام الكبر والمرض والقهر، واشتد عليها المرض، ولم يزرها مرة واحدة، ونقلت إلى المستشفى، ولم يرق قلبه لها، وحثه أقرباؤه وأبناؤه لزيارتها وهي في المستشفى فأبى واستكبر وأخذته العزة بالإثم، واشتد عليها المرض، واقترب الوعد الحق، وعلم العاق أن أمه تعاني سكرات الموت، فهل فاق وتاب وأناب... أبدا، بل شد رحاله وغادر البلاد فجأة دون علم أحد، وبعد أن تأكد أنها ودعت الدنيا بما فيها من مآس ودفنت في قبرها، عاد راجعا، ولكنه رجع ليجني ثمار ما زرع، ويا شرّ ما زرع، لقد زرع العقوق والعصيان، فماذا سيجني؟ وماذا ستكون النتيجة؟... لاشك أنه سيجني البؤس والشقاء.
لم تمر إلا أيام معدودة قبل أن يجف قبر أمه، تعرّض فلذة كبده وأحب أبنائه إلى قلبه إلى حادث مروري مروِّع راح ضحيته الابن، وكان هذا الحادث عبارة عن خنجر غرس في قلب الأب، ولم يمر عام على هذا الحادث الأليم، إلا ويتعرض ولده الثاني وساعده الأيمن في تجارته وأعماله لمرض عضال جعله ملازما للسرير، وأخذه والده وجال فيه أرجاء العالم، يبحث له عن شفاء ولكن دون جدوى، ولحق الابن الثاني بأخيه، وبقي الأب وحيدا، فقد كسر جناحاه، وساءت حالته النفسية، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وبارت تجارته، وأخذ موظفوه يسرقونه، وأخذ يجني ثمار زرعه، وها هو يرى حياته تتصدع أمام عينيه، وها هو يرى ما بناه يسقط أمامه دون أن يستطيع عمل أي شيء، وها هي العقوبة تطل عليه في كل يوم وكل ساعة وكل لحظة، والله أعلم بمصيره في الآخرة (1).
إنها الحكمة الإلهية والعدل الإلهي، فكما تدين تدان.