- طويلة هي الطريق...
كئيبة و مملة...
تناهى الى صوت أخي الصغير متذمراً... يطرد شبح الصمت المطبق علينا بسبب الحر الشديد...
كنت أسند و جهي الى كفي و أرقب الطريق من نافذة السيارة...
سبحان الله...نفس المنظر يتكرر و كأنه لوحة رُسمت على زجاج النافذة..
أرض
قاحلة جرداء..و بعض الحجارة الملقاة هنا و هناك...
يكاد المار من هنا يجزم أنها تخلو من الحياة...
بينة فينة و أخرى كنت ألمح شجرة...و ها هي ذي أخرى...و أخرى هناك يستظل بها أحدهم...
إنتابني شعور غريب...احسست أن تلك الاشجار
تتطاول و تتطلع إلى المارين
من هذا الدرب مثلما يتطلع شخص قابع على قارعة الطريق ينتظر ماراً يقلٌه...
سبحان الله ...كيف تحيا هذه الأشجار هنا في مكان يكاد المطر فيه ينعدم...؟
سبحان مسبب الأسباب...أكيد أن لذلك سببا... و قطع أخي الصغير حبل أفكاري ثانيةً بِمقص صوتهِ الطفولي حين قرأ تساؤلاتي
و طرحها على والدي...؟؟
"إن لهذه الاشجار قصة"قالها أبي و في صوته الكثير مِن
التقدير...
إلتفتُ و تطٌلعتُ اليه بعينين تبتغيانِ المزيد...
إستطرد والدي في الحديث..
أخبرني منذ زمن صديق لي عن عجوز أمضى عمره على هذه الطريق جيئةً و ذهاباً...
لاكثر من 35 سنة عمل و لا يزال سائقا لشاحنة مهمته أن يُوصل الخضر و الفواكه
للقرى
النائية المترامية على جانبي الطريق...
هكذا...و لعدة مرات في الأسبوع...يلتقي زمهرير الشتاء...و يتحمل قيظ الصيف
و لسعة شمسه الحارقة..و لم يكن يرافقه في دربه من البشر احد...
فقط ربّ العباد جل و علا...
قد لا يرى المار من هنا اي جمال او حتى ما يستحق أن يقف عنده...بل و قد
يرثي لحال هذا العجوز اذا سمع عنه...
و لكن روح هذا
العجوز الجميلة انارت بصيرته-بفضل الله- و جعلته يرى الجمال في كل مكان...
فبدلا من ان يتذمر من
قسوة المناخ و من نُدرة الخضرة و الظِّلال...قرّر..هو نفسه
أن يُشعل
شمعة بدلاً من أن يلعن الظلام...قرر أن يغرس اشجاراً على طول الطريق...تكون رفيقةً له في دربه... و تعهد
بأن يسقيها و يعتني بها كلّما مر بها...
غرسها في شبابه... و كان يتوقف عند كل شجيرة ظمئ و يسقيها...في ذهابه و ايابه...
كبُرت الشجيرات مع الزمن..و ورِفت ظلالها و صارت اشجاراً..
و لازالت في كل مرة، تستوقف زارعها و تنتظر ما يحمله اليها من ماء
يهوِّن عليها قسوة الصحراء...
و اليوم صار هو نفسه يستظل بها..
.هو و كل من قاده دربه الى هناك...يااااا الله ما أروعه مِن عمل...و ما أنبله من رجل...ما أجملها من روح
مِعطاءة رأت الجمال في كل شيء و جعلت كل ما تمر به جميلا...
سبحانك ربي ما أكرمك..ألهمت عبدك الصابر و كافأته بصدقةٍ جارية...و ما أنبلها من صدقة...
قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم:
"ما مِن مسلم يغرس غرسا او يزرع زرعا، يأكل منه طير او انسان او بهيمة، الا كان
له به صدقة"
صحيح مسلم
الآن فقط ادركت ما كانت تنتظر تلك الاشجار...عدّلت جلستي على كرسيّي...و عدت أسند وجهي الى خدّي و انا أرقب الطريق من النافذة...
لكن هذه المرة جال في نفسي سؤال
أربكني...
ترى ماذا تركت أنا يذكرني على هذه الارض بعد رحيلي...أ
ين بصمتي...ماذا
فعلت في أوقات فراغي و انشغالي ...برخائي و شدتي...بسعادتي وحزني...بقوتي و ضعفي
هل أرى الوجود جميلا
كما رآه ذلك الرجل...هل
استطيع ان اصل الى كُنه الاشياء
بدل الوقوف عند مظهرها؟؟و
أنتِ يا من تقرئين كلماتي و لامست وجدانك...ترى أتملكين الجواب...؟؟