السؤال
ما حكم مشاهدة الألعاب الكرتونية ( الرسوم المتحركة ) ، خاصة منها ما يحكي قصصا واقعية كبعض وقائع التاريخ الإسلامي مثل فتح القسطنطينية ، وهل يجوز شراء أشرطتها وجعلها وسيلة من الوسائل الترفيهية أو التعليمية للصغار والكبار نرجو التفصيل في ذلك ؟ هناك بعض الأفلام التي يتم فيها تمثيل بعض المعارك والأحداث المهمة في تاريخ المسلمين مثل ( شريط عمر المختار ، وشريط الرسالة ونحوها مما هو مشهور ) ، فهل يجوز مشاهدة مثل هذا النوع من الأشرطة إذا كانت خالية من الموسيقى وصور النساء واشتملت بدلا من ذلك على أناشيد جهادية تحريضية ، وهل يجوز اعتماد مثل هذه الأشرطة وسيلة من وسائل الدعوة والتحريض على الجهاد ؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن مايسمى بالأفلام المتحركة أو أفلام الكرتون ، وكذا الأفلام المصورة بالفيديو ، ونعني بهاالمسرحيات والتمثيليات التي يقوم بتمثيلها أشخاص ، وتعرض على خشبات المسرح وما يتصل بها إعداداً واتجاراً ومشاهدة .. اختلفت حولها أنظار أهل العلم وتباينت اجتهاداتهم بين مجيز ومانع.
ولعل من المفيد أن نعرض لمجمل المحاذير والمآخذ التي قد تتلبس بها وتشتمل عليها، أو على بعضها هذه الأفلام.
أولا : أن يكون مضمون الفلم مخلا بالشريعة الإسلامية ؛ كأن يشتمل على مايناقض أصول الإسلام وعباداته وأخلاقه وآدابه ، من تحقير أو تخطئة لها ، أو تزيين أوتفضيل لما يخالفها، بالقول أو بالفعل والحركة ، وكأن يتقمص الممثل شخصيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ثانيا : أن تشارك فيه المرأة متبرجة غير محتشمة ، أو تؤدي أدوارا غير لائقة بها.
ثالثا: أن يشتمل على الموسيقى صراحة ، بحيث تكون مصاحبة للفيلم ، وليس للمستخدم خيار في حذفها وإلغائها
وهذه المخالفات أدناها يبلغ حد التحريم على الصحيح من مذاهب أهل العلم ، إذ النصوص متضافرة على تحريم أي منها ، لما تفضي إليه من فساد المعتقد وهدم الأخلاق وكسر حاجز الحياء ، واستمراء المحرم والتهوين من شأنه ، والاشتغال بالباطل، وإضاعة المال .. ونحو ذلك .
وعليه فأي فيلم اشتمل على شيء من ذلك فهو محرم لايجوز إعداده ولا الاتجار به ولامشاهدته ، لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان ، والرضى بالمنكر وإقراره ، والغش للنفس والأهل وعموم المسلمين.
وإلى جانب تلك المخالفات ، هناك أمران لاينفك عنهما أي من هذه الأفلام وهما : التصوير والتمثيل. والتصوير في أفلام الكرتون أشد منه في الأفلام المصورة ؛ لأنه رسم وليس مجرد تصوير فوتوغرافي . والتمثيل في الأفلام المصورة أشد منه في أفلام الكرتون ؛ لأنه تمثيل حقيقي ، وليس صورة تتحرك. وكلا الأمرين : التمثيل والتصوير فيه محاذير ، ولأهل العلم فيه اجتهادات مختلفة ، لاختلاف درجات كل منهما ، فمنهم من منعهما بإطلاق ، لعموم النصوص الواردة ، وهي في التصوير أوضح وأصرح منها في التمثيل. والتمثيل بالنظر إلى واقعه وحال المشتغلين فيه ، فاسد مفسد للأخلاق والبيوت ، إلا النادر منه، وعند بعضهم هذا النادر لاحكم له، ولهذا منعوه بإطلاق.
وليس المقام هنا مقام بسط واستدلال ، إذ الكلام في التصوير وأنواعه مستفيض، وكذا التمثيل، والذي يعنينا هنا مايتحرر به الجواب فنقول : استنادا إلى ماذهب إليه جماعات من العلماء من جواز التصوير الفوتوغرافي للحاجة فإننا نرى ـ بالنظر إلى الواقع ـ أن إيجاد البدائل المرئية الهادفة ، المشتملة على عناصر النجاح ، القادرة على المنافسة في عالم أصبحت فيه الأسر والأطفال تلاميذ على شاشات التلفاز وأفلام الفيديو وصفحات الإنترنت .. نرى أن إعداد مثل هذه المواد حاجة ماسة ، ومصلحة راجحة ، يغتفر في سبيلها مادونها مما يصنف في خانة المخالفات الشرعية بالنظر الجزئي ، وذلك لأمور ، منها :
أولا: عموم البلوى بالنظر إلى الأفلام بأنواعها ، ومن عامة طبقات المجتمع ، ومعلوم أن أغلب مايشاهد -إن لم يكن كله- مما لايتفق وآداب الإسلام ، بل هو خارج عن هديه خروجاً كليا أو جزئيا. وليس من الحكمة ولا من النظر السديد أن يترك هؤلاء فريسة لهذه الأفلام الهدامة بحجة أن التصوير مثلا أو التمثيل حرام ، في حين أنه تم استثناء بعض الأحوال كالتصوير للتوثيق ، والتمثيل للتعليم .. ونحو ذلك . وما نحن بصدده أعظم خطرا في أثره وأولى بالاستثناء والاعتبار .
ثانيا: لا وجه فيما نرى لترك الناس ـ على جهة المعاقبة لهم على إدخال التلفاز أو الدش ـ والتخلية بينهم وبين شياطين الإنس والجن ، يعبثون بعقائدهم وأخلاقهم وأعراضهم ، ونقف مكتوفي الأيدي ، سلبيين ، نكتفي بالنقد واللوم والتهديد بالعقاب وبالآثار السيئة ، جزاء مافعل الناس بأنفسهم. وهذا وإن كان ضروريا ، فإنه غير كاف ـ وبالتجربة ـ في حجز الناس عن الباطل .. بل لابد من العمل الإيجابي ومواجهة الباطل بمثل سلاحه ، وإيجاد البديل المقنع ، جنبا إلى جنب مع الدعوة والبيان والتحذير، وإلا فإننا لم نستفرغ الوسع في النصح، ولم نتماش مع ما تمليه قواعد الشريعة ومقاصدها ؛ يبين ذلك الوجه الثالث.
ثالثا : مع التسليم بوجود بعض المحاذير الشرعية التي لاينفك منها مثل هذا النوع من العمل الإعلامي ، فإننا نرى أنها عامل مهم فى تخفيف الشر ومزاحمته، وتخفيف الشر ماأمكن أمر اعتبره الشارع ، إذ هو معنى ماتقرر من أن ارتكاب أخف الضررين، ودفع كبرى المفسدتين مصلحة شرعية . وقد جاء الشرع بتحصيل المصالح وتكميلها ، ودفع المفاسد وتقليلها. ومع يقيننا أنه لو أمكن ـ عمليا ـ دفع مفاسد الأفلام بمجرد التحذير منها لم نستجز عمل البديل لمجرد التسلية والمتعة، ولكن الواقع ينطق بغير ذلك.
رابعا: أن الأفلام الخالية من صور النساء المتبرجات ومن الموسيقى ، ذات الأهداف الخيرة في مضامينها وإخراجها ؛ كالتعليم وتصحيح المفاهيم المغلوطة ، وذكر وقائع التاريخ والإشادة بأعلام الإسلام .. وما شابه ذلك من المعاني والمقاصد الصحيحة . هذه الأفلام تترك أثرا طيبا على النشء وعلى المشاهد عموما ، في زمن اختفت فيه القدوة الصالحة من وسائل الإعلام إلا ماندر فيه، وأصبح المهرجون والمغنون واللاعبون ـ ذكورا وإناثا ـ هم وجوه الناس ومثلهم العليا!!
خامسا: أن إيجاد البديل المناسب جزء من إقامة الحجة على القائمين على القنوات الفضائية وأجهزة التلفاز ، وأصحاب محلات الفيديو ، من جهة ، وعلى المشاهد والمستهلك من جهة أخرى .. الذين يجلبون إلى الناس وإلى بيوتهم الأفلام الماجنة ، وإذا قيل لهم في ذلك ، قالوا: هذا هو الموجود!. ومع تسليمنا بخطأ هذا المنطق ، إلا أنه ـ ومرة أخرى ـ لايكفي أن يكون منطقهم هذا نقطة مفاصلة بيننا وبينهم ، فالدمار والعقوبات الإلهية والفوضى والانحلال سوف نكتوي بنارها جميعا ، كما أننا يجب أن نقف من الناس موقف الأطباء من المرضى ، فنعمل على حجب أسباب المرض ، ونؤخر ما أمكن أسباب الهلاك وموجبات العقوبة .
سادسا : أن واجب حماية المجتمعات الإسلامية من أسباب الانحلال والفساد هو واجب الحكام والحكومات بالدرجة الأولى ، لأن بيدهم قرار المنع ، وإليهم يرجع تشجيع البديل الأفضل وإحلاله. يلي ذلك العلماء وأهل الإصلاح في الدعوة وإقامة الحجة ، والاجتهاد في حث الناس على مقاومة الفساد وأسبابه بالوسائل المناسبة ، ومنها تشجيع القادرين من أهل المال والاختصاص بالتعاون والتفكير في إيجاد البدائل ، وتذليل العقبات لهم ، وفي مقدمتها: دراسة الأمر من وجوهه المختلفة ، والنظر في المصالح العامة والمقاصد الشرعية ، وتنزيل النصوص منازلها منها ، وتشجيعهم وضبط مسيرتهم.
وإذا قصر هؤلاء وأولئك في أماناتهم وتخلوا عن مسؤولياتهم فأي مصير مجهول ينتظر هذه المجتمعات المغلوبة على أمرها ، التي فقدت النصح والتوجيه على كل المستويات ؟!
إن من غير المقبول أن نعجز عن حماية المجتمع الإسلامي من أسباب الرذيلة وطرق الانحراف، ثم يضيق أفقنا أو نتقاعس عن تيسير المخارج الأقل خطرا، من باب رفع الحرج عن الناس والتدرج في استصلاحهم .
سابعا: إن تغير وسائل التخاطب وأنماط الحياة وأساليب التأثير حقيقة ماثلة لايمكن تجاهلها بعدم التعامل معها ، أو تجاوزها واختزالها ، ومطلوب منا نحن المسلمين أن نعيش عصرنا بالإسلام ، وأن نجتهد لكل نازلة بما يتناسب وطبيعتها وظروفها ، وأن نقر بشدة وطأة أعداء الإسلام الإعلامية والثقافية على بلاد المسلمين ، وأن وسائل المسلمين في مقاومة هذا الغزو ضعيفة جدا ، وأنها حرب غير متكافئة ، وإذا كنا نسلم بجواز مصالحة العدو مرحليا في حال الضعف ، حتى نتمكن من أسباب القوة والمقاومة ، فإننا أمام حرب لاتجدي معها المهادنة ، بل المطلوب هو التسليم المطلق وبدون شروط.
أفلا يكون إفساح المجال أمام الأفلام الهادفة ـ والحالة هذه ـ ضمن قيود تراعي خصوصيتنا الإسلامية ، لتحقيق الكفاية أو مقاربتها ، ألصق بالحكمة ومقاصد الشريعة من إغلاق الباب فى وجوه أصحاب النوايا الحسنة الراغبين في سد هذا الثغر ، لنصبح عيالا على البديل الأسوأ ، بحجة أن هؤلاء كفار ، دينهم ماتهواه نفوسهم، ونحن مسلمون ، لنا موازيننا في القبول والرفض ، فكيف سمحنا لهذه الموازين أن تختل في تلقي زبالة أفكارهم وقمامة رذائلهم! ولم نجتهد ـ وفق موازيننا ـ في إبداع الوسائل المقاومة لهم!
وإذا كنا نعذر أنفسنا في الأول بالعجز عن منع المنكر ، فلا عذر لنا في الثاني بمقاومته بكل وسيلة هي أقل ضررا منه. هذا مقتضى العقل وعين مقاصد الشرع.
ولابد أن نفرق بين من يدعو إلى التنازل عن الثوابت ، واقتحام المحرمات لذاتها ، مجاراة لأعداء الإسلام وتزينا أمامهم .. وبين من أفزعه الواقع المؤلم ، ونهض لإيجاد البديل ، مرتكبا أخف الضررين ، دون توسع ، مجتنبا الوقوع في المحرم لذاته، متذرعا بما وسع بعض المجتهدين من أهل العلم المعتبرين في التجوز فيه، فيما يتعلق بالمحرم لغيره ، إذا دعت مصلحة راجحة لاستخدامه.
كما لابد أن نفرق في الأمر المنكر الذي يشيع في الناس :
بين ماتكون الحكمة في الردع عنه تغليظ العقوبة فيه ، كما فعل عمر رضي الله عنه في حد شارب الخمر ، لما فشا في الناس شربها ؛ حيث جعل الحد ثمانين جلدة، ووافقه الصحابة رضي الله عنهم في ذلك.
وبين ماتكون الحكمة حجز الناس عنه بالرفق واللين، وإعطائهم بعض مايحبون حتى ينكفوا عما وراءه مما هو أعظم منه ، كما فعل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في حمل الناس على الأمر الأول ، وقد بعدوا عنه بعض الشيء! فكان يعطيهم الحلوة من الدنيا رجاء أن يقبلوا معها مايريده رضي الله عنه منهم من أمر الدين.
ولاشك أن مانحن بصدده هو من جنس الأمر الثاني .
فلهذه الأسباب ونحوها فإننا نرى ـ والله أعلم ـ أن إنتاج وتصوير الأفلام الكرتونية والمسرحيات الهادفة ، المنضبطة بالضوابط المذكورة سابقا أشبه بالصواب ، تيسيرا على الناس ، واستصلاحا لما أمكن ، وتخفيفا للشر ومزاحمة له ، وإقامة للحجة في ترك ماهو أعظم شرا منها، ومراعاة لاختلاف أحوال الناس في طرائق التعلم والتلقي ، ومخاطبة الناس باللغة التي هي أكثر تأثيرا من غيرها، وأن مايرتكب في سبيل ذلك مما لابد منه من مخالفات ، لاتبلغ ماذكرنا من المحاذير التي لايتأول في تجاوزها ، فإنه مغتفر مغمور بالمصلحة الكبرى المرجوة ، على أن يجتهد أهل العلم والمختصون بالبحث الدائم عن الوسائل التي تؤدي الغرض ، وتكون أسلم وأبعد من المخالفات الشرعية حسب الإمكان. والله تعالى أعلم.
أتمنّى أن أكون قد أفدّتكِ أختي دموع القمر