الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين
سيدنا محمد وعلى آله و صحبه و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
فهذه بحوث تربية الفتاة المسلمة
للدكتور عدنان حسن باحارث
رئيس قسم التربية وعلم النفس بكلية المعلمين بمكة المكرمة
سأحاول نقلها على حلقات إن شاء الله
الحلقة الأولى
التربية الإيمانية للفتاة
1ـ حاجة الفتاة إلى التدين
تشير العديد من الدراسات التربوية المعاصرة إلى وجود حاجة نفسية ملحة عند الشباب عموماً نحو التدين، خاصة في الفترة من 12-16سنة، تدفعهم نحو العبادة والتنسك، ولاسيما عند الفتيات، حيث يكثرن السؤال عن الدين والمعتقدات ويتوجهن نحو العبادة.
وهذه المشاعر تظهر بصورة عامة للبالغين من الشباب رغم طغيان المادة في هذا العصر، وفقدان كثير من الحقائق الإيمانية، والمفاهيم الدينية، والعجيب أن مثل هذه المشاعر الدينية تظهر حتى عند الناشئين في الأسر غير المتدينة، إلا أنها سرعان ما تذبل إذا لم تجد رعاية وتوجيهاً، مما يدل على غلبة الفطرة الإنسانية، وحاجتها الماسة للإشباع الروحي إلا أنها في حاجة إلى رعاية واحتضان.
وقد أثبتت التجربة المعاصرة أن غياب الدين الحق عن واقع الشباب يحدث لديهم خلخلة نفسية عظيمة، وفراغاً روحياً رهيباً، قد يسوق بعضهم إلى الأمراض النفسية ، وربما إلى تحطيم الذات، والتخلص من الحياة، ولا سيما عند الإناث.
كما ثبت في الجانب الآخر أن الدين الحق أعظم حصن يحفظ الإنسان من الأمراض النفسية، وأفضل وسيلة للراحة والسعادة القلبية، ولهذا تقل حالات الانتحار بين المتدينين، وتنخفض حدة الأعراض الاكتئابية بينهم.
مما يحتم على منهج التربية أن يحقق للفتاة الفرصة التربوية الكافية لإشباع هذا الجانب الروحي من كيانها النفسي.
الحلقة الثانية
2ـ أهداف تربية الفتاة الإيمانية وخصائصها التربوية
أهم خصائص الفتاة الإيمانية:
1-اختصاصها بقوة القناعة الاعتقادية، وقلَّة النزعة الإلحادية والجدلية، مما يسهل مهمة تربيتها من الناحية الإيمانية.
2-اختصاصها بعمق التأثر الروحاني، وسهولة الانقياد الإيماني، مما يستلزم ضرورة اعتماد الإيمان أساساً لتربيتها.
3-اختصاصها بشدة التأثر بأسلوب الوعظ والتذكير باعتباره وسيلة من وسائل التربية الإيمانية مما يتطلب استخدام هذا الأسلوب في تربيتها.
4-اختصاصها بالحاجة إلى العقيدة الراسخة لتقبلها لطبيعتها الأنثوية، وما يترتب على ذلك من مسؤوليات اجتماعية جسيمة، ومعاناة صحية شديدة.
5-اختصاصها بسهولة تقبل الخرافات الشائعة، والتأثر بأساليب السحرة والمشعوذين، مما يتطلب حمايتها من ذلك، وتوعيتها بنواقض الإيمان، مع ضرورة تنمية الإيمان القوي الدافع إلى الالتزام بجميع شعبه ومقتضياتها وسلوكياتها.
أهداف تربية الفتاة الإيمانية:
1-معرفة الفتاة بالله تعالى ومحبته في ضوء الوحي المعصوم.
2-ارتباط سلوك الفتاة بمقتضى الإيمان بالله تعالى.
3-تجريد الفتاة التوحيد لله تعالى والبراءة من الشرك.
4-استحضار الفتاة رقابة الله تعالى الدائمة مع شعورها بالخوف منه والإجلال له.
5-إحساس الفتاة الدائم بالافتقار إلى الله تعالى.
6-إيمان الفتاة بوجود الملائكة وأنهم خلْقٌ من خلْقِ الله تعالى.
7-محبة الفتاة للملائكة جميعاً وموالاتهم.
8-تعرُّف الفتاة على وظائف الملائكة ورعاية حقوقهم.
9-تفريق الفتاة بين إلهامات الملائكة بالخير ووسوسة الشيطان بالشر.
10-تأثر الفتاة بحال الملائكة في خوفهم وإجلالهم لله تعالى.
11-إيمان الفتاة بجميع كتب الله تعالى المنزلة إجمالاً مع إيمانها التفصيلي بالكتب التي ثبت ذكرها بالوحي.
12-اعتقاد الفتاة الجازم بأن القرآن خطاب الله تعالى للمكلفين من عباده جميعاً.
13-اتخاذ الفتاة القرآن مقياساً لصدق الإيمان وصحة العمل.
14-إيمان الفتاة الراسخ بضرورة العمل بالقرآن لصلاح الدنيا والنجاة في الآخرة.
15-حرص الفتاة على فهم خطاب الله تعالى في كتابه العزيز والعمل به.
16-إيمان الفتاة بجميع الرسل ومحبتهم إجمالاً مع إيمانها التفصيلي بمن ثبت ذكرهم بالوحي.
17-إدراك الفتاة المنَّة الربانية ببعثة محمد r ونعمة الله تعالى عليها بانتسابها لأمته.
18-امتثال الفتاة طاعة الرسول محمد r في جميع شؤون حياتها والاقتداء بسنته.
19-اعتقاد الفتاة بأن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي.
20-حرص الفتاة على معرفة سيرة الرسول محمد r .
21-تيَقُّن الفتاة الجازم بحقيقة اليوم الآخر وصدق حدوثه.
22-تسليم الفتاة التام بالثابت من أخبار وأحداث اليوم الآخر.
23-تأثر سلوك الفتاة إيجابياً بعقيدة اليوم الآخر.
24-ربط جميع أعمال الفتاة بالجزاء المنتظر في اليوم الآخر.
25-إدراك الفتاة حقيقة الحياة الدنيا وقدرها في مقابل حقيقة الدار الآخرة وعظيم شأنها.
26-تصديق الفتاة الجازم بقضاء الله تعالى وقدره لكل جزئيات وكليات حوادث الكون.
27-تسليم الفتاة لمشيئة الله تعالى وقدره مع كمال اعتقادها بعدله ولطفه ورحمته في كل ما قضى وقدر.
28-اعتقاد الفتاة بمسؤوليتها الكاملة أمام الله تعالى عن جميع أعمالها الإرادية.
29-حرص الفتاة على الأخذ بالأسباب المشروعة مع حسن توكلها على الله تعالى.
30-إدراك الفتاة لعظيم قدرة الله تعالى وسعة علمه وإحاطته الكاملة بخلقه جميعاً.
الحلقة الثالثة
3ـ اعتدال الفتاة في نهج التَّنَسُّك :
يُعد الاعتدال في منهج العبادة، والترقي الروحي من وسائل التنمية الروحية لكونه طريقة ناجحة للمداومة على الأعمال الصالحة، فإن المشادَّة لا تصل بصاحبها إلى شيء، وقد نهى عنها رسول الله r فقال : إنّ الدين يُسر، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ) وبين u لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لما أمعن في التَّنسُّك : أن للبدن حقاً في الرعاية، وكذلك للأهل، ولمن حوله من أصحاب الحقوق في الحياة الاجتماعية العامة، بحيث لا تستهلك مناهج العبادة – بمعناها الخاص- كل نشاط الإنسان الحيوي، فتتعطل مصالح الدنيا.
ولما كان للفتيات من التفوق الديني والخلقي ما قد يسوق بعضهن إلى مزيد من الانهماك في أداء الشعائر التعبدية والتَّبتُّل، حتى يخرجن عن نهج الاعتدال، وربما يصلن إلى درجة الخبل والجنون، فإنّ رسول الله r كان يعيدهن إلى المذهب الوسط، كلما وصله عن بعضهن شيء من المبالغة، فهذه أخت عقبة بن عامر رضي الله عنهما، نذرت أن تمشي إلى البيت الحرام، فقال رسول الله r : لتمشِ ولْتركب ) ولما أخبرته عائشة رضي الله عنها عن امرأة تكثر من العبادة ، وتخرج عن نهج الوسط، قال u مه ، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ) وهكذا نرى رسول الله r يردهن إلى المنهج الوسط والاعتدال عند كل انحراف أو غلو.
ولا يفهم من هذه التوجيهات رفض التنسك والتفرغ للعبادة؛ فإن العبادة تفقد لذتها ما دام الإنسان منهمكاً في نمطية الحياة اليومية دون انسحاب. ولكن المقصود بالاعتدال في التربية الروحية: أن يعقد المسلم بينه وبين ربه U صلة دائمة لا تنقطع، تلازمه في كل حين، ومع كل خاطرة وفكرة، بحيث يجعل كل نشاطه – الواجب والمباح- عبادة مع المداومة الكاملة دون انقطاع.
4ـ شعور الفتاة بالحاجة الدائمة إلى الله تعالى :
من أعظم آثار الإيمان بالله تعالى : وجود هذا الشعور العميق والملح في النفس الإنسانية الذي يجعلها في حاجة وفقر دائم إلى الله تعالى، تستمد منه العون والعطاء، خاصة في وقت الشدائد والمحن. ويستوي في هذا الشعور المؤمن والكافر، وحتى الملحد الذي ينكر وجود الله تعالى، فإن المحن تزيل الشبهات، وتبعث الإيمان.
إن كل ما في هذا الكون مدين في وجوده إلى الله تعالى، ومفتقر إليه سبحانه من أجل بقائه ودوامه، قال الله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } [الأنعام: 73 ] وقال أيضاً: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [الفرقان: 2] وقال U : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [سورة فاطر: 41].
وهذه الحاجة دائمة لا تنقطع مهما تقدم الإنسان في علومه ومعارفه ومهما بلغ من السيطرة والتحكم في المادة، فهو قلق مضطرب، حتى يرجع إلى القوة الإلهية يستند إليها، فلا يتصور في وقت من الأوقات أن يأتي يوم على الإنسان يشعر فيه بالاستغناء عن الله تعالى.
إن التصور الإسلامي ينكر ما ذهب إليه البعض، من أن اللجوء إلى الله أو الدين كان لمجرد حاجة مرحلية في فترات زمنية مرت بالإنسان دفعته إلى هذه المعتقدات، متناسين أن اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه حاجة فطرية في كينونة الإنسان، كحاجة الطعام والشراب، بل اعتبر الإسلام مجرد شعور الفرد باستغنائه عن الله طرفة عين: كفراً كما دل البحث الميداني الذي أجري على مجموعة من الفتيات: على أن الرغبة في اللجوء إلى الله، والحاجة الماسة للقرب منه I كانت واضحة في كتابات الفتيات الحرة، فهذا مما يشير إلى عمق هذا الشعور في كيان الإنسان لو ترك على حاله دون تدخُّل مفسد.
إن الاستشعار الدائم بالضعف ضروري للإنسان، فإنه يُثير في النفس انفعال الخضوع، وهو بالتالي يدفع نحو سلوك طريق الطاعة، فيكون شعور الفتاة بالحاجة إلى الله تعالى الدائمة وسيلة جادة تدفعها نحو الانهماك في طاعة الله تعالى والأخذ بأوامره، واجتناب نواهيه، بحيث يشمل هذا الشعور كل تفصيلات الحياة، ومتطلباتها كما رُوي عنه r : ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى يسأله شِسْعَ نعله إذا انقطع ) فلم يترك منهج الإسلام التربوي مجالاً للإنسان المسلم بأن ينقطع عن ربه طرفة عين ...
الحلقة الرابعة
5ـ استشعار الفتاة العناية الربانية بإنزال الكتب :
اقتضت حكمة الباري سبحانه أن لا يترك الإنسان على هذه الأرض دون إرشاد أوهداية، خاصة إذا علم أن الإنسان بطبيعته يعجز عن إدراك المصالح الحقيقية وطرق الوصول إليها بنفسه، لهذا جعل الله سبحانه له هذه الشريعة – المتمثلة في الكتب – طريقاً للهداية والإرشاد؛ فمن أين يمكن للإنسان أن يجد الإجابة المقنعة عن أسئلة النفس الملحة لولا عناية الله بحاجاته من خلال الكتب، فغاية الوجود، والمصير الذي ينتهي إليه الإنسان، ومعرفة خالقه، كل هذه أسئلة تدور في خلد الإنسان، ولا بد من مصدر صحيح يجيب عنها بصورة مقنعة.
يقول الله تعالى في بيان فضله بإنزال الكتب: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } [النساء: 174] ويقول أيضاً: { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [المائدة: 15- 16] .
إن استشعار هذه العناية الإلهية بإنزال الكتب يملأ نفس الفتاة طمأنينة وراحة وصدقاً في التوجه نحو الباري سبحانه بكمال المحبة والخضوع والشكر، خاصة إذا علمت أن الشريعة الخاتمة شريعة ثابتة، لا تتناهى معاني نصوصها، وهي كاملة لا تحتاج إلى من يكمل نقصاً فيها، كما قال الله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة: 3]، ثم إن إنزال الكتب، وبعث الرسل بها إنما هو محض فضل من الله تعالى، ليس واجباً عليه، فإدراك هذه المعاني الجليلة يبعث الشعور بالعناية الربانية في نفس الفتاة المؤمنة.
6ـ استسلام الفتاة للحاكمية الربانية :
ويقصد بالحاكمية لله تعالى: أن يقوم العبد المؤمن بتحقيق مراد الله تعالى ظاهراً وباطناً حسب استطاعته، فالشريعة إنما وضعت لعتق المكلفين من أهوائهم؛ حتى يكونوا عبيداً لله تعالى اختياراً، كما هم عبيد له اضطراراً، وهذا مضمون معنى العبادة ومستلزماتها من الذل والخضوع والانقياد.
والكتب تمثل إرادة الله تعالى من عباده باعتباره – سبحانه وتعالى - مصدر السلطان الأول والأخير في الوجود، فتتلمس الفتاة من خلال تطبيق الكتاب: مرادات الله تعالى في كل جزئية وكلية، وتشعر بارتباطها جميعاً بجذور العقيدة؛ فلباس الفتاة – مثلاً- ليس بذي قيمة حقيقية إن لم يكن تعبيراً عن موقف فكري، ومبدأ تؤمن به وتمارسه في واقع الحياة، فما قيمة الحجاب إذا كان الدافع لارتدائه العادات والتقاليد "الهشة" وليس حكم الله تعالى، وما قيمة أيِّ سلوك تقوم به الفتاة إن لم يكن صارداً عن جذْر الإيمان بحق الله تعالى في الحكم والتشريع.
إن القيمة الحقيقية التي تقوَّمُ بها الأعمال هي: قدر حظِّها من الارتكاز على الاعتقاد وأصول الإيمان، المتمثل في استشعار الرغبة الصادقة في تحقيق مراد الله تعالى، وحاكميته في واقع الحياة من خلال السلوك الذي وصفه في الكتاب ورغَّب فيه، مع ربط كل عمل من الأعمال الإرادية الظاهرة أو الباطنة بأصل المعتقد.
ولقد تعرَّض مبدأ الحاكمية -بهذا المعنى- في العصر الحديث ـ ولا سيما بعد الثورة الفرنسية عام 1789م وظهور مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان ـ إلى هزَّات شديدة أخذت تنقل الإنسان – ولا سيما الأوربي- بالتدريج بعد مراحل طويلة من الخسف والإذلال إلى مراتب عالية، قد تصل في علوِّها إلى حد الإلهية، فيسبغ على نفسه من خلال مبادئ الحرية والديموقراطية – خصائص الإلهية في الحكم والتشريع والسلطة، التي لا تكون إلا لله تعالى وحده.
ومن آثار الإيمان بالكتب انضباط سلوك المكلفين بمقتضيات الشريعة التي بيَّن فيها الوحي الرباني نهج السلوك الإنساني المرضي في العبادات، والمعاملات، وفي جوانب الحياة المختلفة، بحيث تكون معالم السلوك التي أوضحتها الشريعة: حجة على الناس وليس العكس، وتكون مقرراتها الخلقية ضوابط لسلوك الإنسان، بحيث لا تختل مقررات الشارع الحكيم عند الفرد فيما هو مصلحة أو مفسدة على الدوام، مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام : الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه.. ) بمعنى التزام قضاء الله التشريعي دون اختيار، مصداقاً لقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب: 36] مع ضرورة الرضا القلبي بأوامر الله تعالى، ومحبتها، بحيث تحب الفتاة ما أحبه الله، وتبغض ما أبغضه الله، ويكون التزامها بالأحكام: باعتبارها ضوابط سلوكية محبوبة، وليس باعتبارها قيودًا دينية مكروهة كما يظهر من بعضهن.
الحلقة الخامسة
7ـ انقياد الفتاة بالطاعة للرسول الكريم:
إن الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام وبخاتمهم على الخصوص، لا ينحصر في المحبة القلبية التي ليس لها شاهد من واقع الحياة العملية التطبيقية، فإن طاعة المحبوب وموافقة مراده من أعظم أدلة صدق المحبة وخلوصها.
إن الغاية الكبرى من إرسال الرسل عليهم السلام إلى الناس: تحقيق مرادات الله تعالى من خلال طاعتهم كما قال I : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ……} [النساء: 64] فإذا لم يتمثل سلوك المكلفين من المؤمنين بالطاعة للرسل كان سلوكهم أعظم دليل على وجود خلل في محبتهم، وشوائب في صدق إخلاصهم في دعوى الإيمان.
ورسالة النبي الأعظم محمد r تمثل أعظم وأفضل الرسالات السماوية وأكملها حيث وصلت البشرية إلى المرحلة التي استكملت فيها نسبة من التطور تؤهلها لأن تكون أمة واحدة، تعمل برسالة واحدة: فأرسل الله رسوله محمداً صلوات الله عليه… برسالة هي خاتمة الرسالات الربانية والجامعة لجميع شرائع الله للناس، فتلخصت بذلك طاعة المكلفين للرسل الكرام، عموماً، وانحصرت في طاعة خاتمهم محمد r بعد بعثته؛ إذ حمل أعباء الرسالة الربانية الأخيرة، والناسخة لما سبقها من الشرائع والسنن، والتي ارتضاها I لتكون معياراً ثابتاً ودائماً للمكلفين؛ لضبط صدق الطاعة والإيمان، كما قال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران:81]، ففي الآية إشارة إلى ما أخذه الله تعالى من المواثيق على جميع النبيين وأممهم بأن يؤمنوا بالرسالة الخاتمة، وبصاحبها محمد r ، فاعتبر ما سبقها منسوخاً بها، لا يصح العمل به، لكونه عليه الصلاة والسلام مبعوثاً للناس كافة، كما قالI: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا …..} [سبأ: 28].
ومن هنا ألزم I عباده المكلفين بطاعة الرسول r صاحب الرسالة الخاتمة فقال: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [النساء: 80]، وجعل الله U طاعته دليل صدق الإيمان فقال: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [النساء: 65] وجعل الله طاعته وسيلة دخول الجنة فقال عليه الصلاة والسلام : ( كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبي، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله، قال: من عصاني فقد أبى) وهذه الطاعة شاملة لكل ما جاء به الرسول r قرآناً كان أو سنة، فهما كالشيء الواحد، فكما كان جبريل u ينزل بالقرآن فقد كان ينزل أيضاً بالسنة يُعلِّمها النبي r .
لقد كان لهذه التوجيهات الربانية والنبوية أثرها البالغ في جيل الصحابة رضي الله عنهم ؛ إذ كانوا يعتبرون توجيهاته u ملزمة لهم، لا يخرجون عنها، فهذه فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما لما خطبها رسول الله r لأسامة بن زيد رضي الله عنهما كره أهلها ذلك النكاح لانخفاض مقام أسامة وأبيه من جهة الشرف والمكانة، فقالت : (( لا أنكح إلا الذي دعاني إليه رسول الله r فنكحته )) .
وهذه أم شريك لا ترى لها حقاً في قتل الوزغ حتى تستفتي رسول الله r في جواز ذلك، ولما أمر الرسول r بصيام عاشوراء: لم تجد المرأة المسلمة بداً من أن تصومه وتعاني تدريب الصغار على صيامه؛ حين كان صيامه مفروضاً على المكلفين، ومستحباً لغيرهم.
إن قناعة الفتاة المؤمنة بأن الخير دائماً في امتثال أمر الله تعالى المتمثل في طاعة الرسول r يحررها من هوى نفسها، وهوى غيرها من الخلق، ويحفظ لها توحيدها، فإن المكلف ينقص من توحيده بقدر ما يخرج عن طاعة الرسول r .
8ـ وجوب تحقق الفتاة بمحبة النبي الكريم :
إن الشعور بالانتماء إلى الأمة المؤمنة التي يقودها موكب الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام: يبعث شعوراً بالمحبة الصادقة تجاه هذا الكيان الإيماني الكبير، الذي امتثل مراد الله تعالى في أكمل صورة بشرية، لا مزيد عليها، ولا مثيل لها في غيرهم، ممن لم ينل شرف النبوة من عامة الخلق، فاستحقوا واستوجبوا كمال المحبة من المؤمنين لكمال مقامهم، فليس فيهم، ولا يصدر عنهم ما يدعو إلى النفرة، أو يشعر بالقبح في سلوكهم، أو صورهم.
وكما أن محبَّتهم في العموم واجبة لاستحقاقهم إياها، فإن تخصيص محمدr بمزيد محبة وإجلال أمر مطلوب؛ إذ هو أفضلهم، وأكرمهم على الله تعالى، وفي الحديث قال رسول الله r : ( أنا سيد ولد آدم …), وهذا ليس من باب الفخر، وإنما هو من باب البيان الذي يجب عليه تبليغه للأمة، حتى يعتقدوه ويعملوا به، ويعرفوا مقامه ومرتبته، باعتباره أفضل الخلائق أجمعين؛ بل إن محبته u من عناصر صحة الإيمان، كما قال r: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) كما أن محبته من تمام محبة الله تعالى، فالأمة تحبه لحب الله تعالى إياه. فالواجب أن يُحَبَّ أعلى درجات المحبة، فإن أسبابها ومستلزماتها: من الجلال والعظمة والكمال الخَلْقي والخُلُقي كلها قد جُمعت في شخصه عليه الصلاة والسلام ، فليس للمؤمن أمام شخصه الكريم إلا المحبة والإجلال والتبجيل.
وقد مثل الجيل الأول أعلى درجات المحبة له r ، فهذه أم سليم رضي الله عنها تحتفظ بفم قربة قطعتها بعد أن شرب منها رسول الله r وأخرى تدعو الله أن تكون رفيقة الرسول r في الجنة، وتفرح إحداهن فرحاً عظيماً لما بعث إليها يقرأ عليها السلام، وربما وهبت إحداهن نفسها له u لينكحها محبة فيه، وربما ماتت إحداهن لما علمت برغبته في نكاحها، ولما أرادت إحداهن وصفه لبعض التابعين قالت : " لو رأيته رأيت الشمس طالعة ".
وقد بلغ بإحداهن أن تجمع عرقه فتجعله في الطيب، ووصل الحد بأخرى أن تشرب بوله u كل ذلك كان يتم بعلم الرسول r وإقراره، مما يدل على أن هذه الممارسات من مظاهر محبته، وأن ذلك الجيل لم يخرج بهذه الأعمال عن نهج الاعتدال إلى الغلو المذموم الذي قد يقع فيه الغلاة.
وقد ظهر واضحاً في ذلك الجيل التفريق بين محبته عليه الصلاة والسلام وبين الغلو في شخصه الكريم، حيث برز ذلك واضحاً في سلوك أعظم فتاة محبَّةٍ للرسول r وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، لما نزلت براءتها في حادثة الإفك، حيث قيل لها: قومي إلى رسول الله r، فقالت: " لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله "، فكانت مدركة ومفرقة لما يجب لله تعالى، وما يكون لرسول الله r .
إن محبة رسول اللهr لا تنقطع بغياب شخصه الكريم، فإن المطلع على سيرته المباركة، وفضائله، وشمائله لا يملك إلا أن يحبه، ويجلَّه ويتعلق به تعلقاً عظيماً، فهذا التابعي الجليل ثابت البناني يقول لأنس بن مالك t : " أعطني عينيك التي رأيت بهما رسول الله r حتى أقبلهما " فالمجال مفتوح للفتاة المسلمة المعاصرة، للترقي في مراتب الإيمان بالرسل الكرام عموماً، وبالرسول محمد r خصوصاً، من خلال الاطلاع على السيرة العطرة، والأخبار الشيقة الواردة فيها ..
الحلقة السادسة
9ـ إحساس الفتاة بالمسؤولية الفردية أمام الله تعالى :
يظهر واضحاً في منهج التربية الإسلامية أن الدعوة إلى الجماعية والوحدة، ونبذ الفرقة والفردية من أعظم مقاصد هذا الدين للحياة الدنيا، إلا أن الشأن يختلف في الحياة الأخرى، فإن الفردية تبرز في أشد صورها، وأعلى مظاهرها، فتتمثل في رغبة شخصية عارمة للنجاة والفوز، مع إغفال تام لكل الصلات الاجتماعية ، مهما كانت حميمة، حيث تواجه كل نفس – منفردة- مصيرها الخاص، الذي لا يتأثر بمصائر الآخرين.
إن هذا الشعور دفع المرأة المسلمة الأولى للإيمان بالله ابتداء، دون مشورة من أحد، أو استئذان من أحد، منطلقة من المسؤولية الفردية. فهذه الفتاة الصغيرة أم كلثوم بنت عدو الله عقبة بن أبي معيط، تهاجر على قدميها إلى رسول الله r وهي بعد بكر لم تعرف الحياة. ووصيلة بنت وائل بن عمرو بن عبد العزى لم يمنعها إحجام قومها عن الإسلام؛ أن تكون أول من أسلم وهاجر من قومها. ولم يمنع تطاول قريش، وشططها من أن تكون الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف رابع من أسلم، وأسماء بنت عميس رضي الله عنها من أوائل من أسلمن من النساء قبل دخول النبي r دار الأرقم. وكذلك أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما تختار هذا الطريق وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها. وأم سعيد بنت بزرج لما قُرئ عليها القرآن لم تتباطأ عن الإسلام، فكانت أول من أسلم من أهل اليمن.
إن إدراك الفتاة المسلمة المعاصرة لطبيعة المسؤولية الفردية أمام الله تعالى يدفعها إلى المبادرة الشخصية تجاه هذا الدين، في صورة استشعار ذاتي بضرورة استيعاب الخطاب التكليفي، ومن ثم المسارعة في تطبيقه، والعمل به.
ولعل من أبلغ الأمثلة على هذا الاستشعار، موقف الفتاة التي أمر رسول الله r المغيرة بن شعبة t أن ينظر إليها لما همَّ بخطبتها، فتردَّد والدها في تطبيق الأمر، فلما سمعت الفتاة بأمر رسول الله r وهي في خدرها قالت" إن كان رسول الله r أمرك أن تنظر، فانظر…" وكذلك قصة جليبيب الذي اختاره رسول الله r للزواج من فتاة كره والدها زواجها منه حيث قالت الفتاة لهما: " أتردون على رسول الله r أمره، ادفعوني إلى رسول الله r فإنه لن يضيعني…".
إن هذا الإدراك للمسؤولية الفردية أمام أحكام هذا الدين، هو الأساس في بناء شخصية الفتاة المسلمة الملتزمة بالدين، التي تصمد أمام المتغيرات الاجتماعية الكبيرة، والانحرافا ت الكثيرة التي يتعرض لها الشباب في هذا العصر.
10ـ شعور الفتاة بالمراقبة الربانية:
لقد أوضح القرآن الكريم في مواضع متعددة، أن الله U محيط بعباده، ولا يخفى عليه من أمرهم شيء ، حتى خلجات النفس، والمقاصد والنيات، فيقول I: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَان َ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ق: 16] ويقول عز من قائل: {….وَهو مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُون َ بَصِيرٌ } [الحديد: 4] فهو مع خلقه بعلمه وقدرته عليهم أينما كانوا، لا تغيب عنه أفعالهم، ولا إرادتهم الصالحة أو الفاسدة، فهذه الإحاطة، وهذا السلطان الرباني الذي لا يحده شيء، لو أدركته الفتاة، وأيقنت به: أورثها حياءً من الله يدفعها نحو تحمل أعباء الطاعة وامتثال الأوامر.
والعجيب في كثير من شباب هذا العصر قلة مراقبتهم لله تعالى، على الرغم من طبيعة الانبعاث الإيماني في هذه السن، ومع ذلك فقد دلت إحدى الدراسات الميدانية أن الخوف من الله تعالى يأتي في آخر العوامل التي تمنع الطالب من الغش في الاختبارات ، في حين تأتي شدة الأساتذة في المرتبة الأولى للأسف الشديد.
ومن مظاهر الإحساس بمراقبة الله تعالى: الشعور بالذنب، والتقصير في جنب الله تعالى. وغالباً ما تعاني الفتيات من هذا الإحساس فينبعث في نفوسهن الشعور بالاثم عند إهمالهن أداء الصلاة – مثلاً- خوفاً من عقاب الله تعالى، ويملن نحو القرب من الله تعالى، والأنس به.
وهذا الشعور ليس مقصوراً على الفتيات المؤمنات فحسب، بل حتى غير المسلمات يشعرن بذلك، وينتابهن نفس الإحساس، فهذه فتاة غربية في المرحلة الثانوية تعترف بتقصيرها في جنب الله تعالى فتقول: " أنا أحمل الهم إلى درجة زائدة، بسبب أن معتقداتي الدينية مضطربة، كما أن حياتي مخالفة تماماً لتلك التي أرى المتدين الحق لابد أن يحياها ". إن هذا الشعور يكاد يكون عاماً بين الفتيات مما يعتبر رصيداً جيداً لإحياء الشعور بمراقبة الله تعالى في نفوس الفتيات المتوجهات نحو النضج الخلقي، والجسمي.
ومن مظاهر الشعور بمراقبة الله تعالى أيضاً: وجود ذلك السلطان الداخلي الذي يبعث النفس، أو يكفها عن الخطأفيالوقت الذي أخفق فيه السلطان الخارجي في ضبط سلوك الإنسان، وكفه عن اقتراف الجرائم والموبقات، فلم يعد سوى ضابط الوازع الداخلي لإيقاف اندفاع الإنسان المنحرف عند حده. إنه وخز الضمير الذي يغذيه الإيمان بمراقبة الله تعالى فيكف صاحبه عن ارتكاب الخطأ، وفي الحديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن…) بمعنى أن الإيمان بهذه المراقبة الربانية هو العاصم الحقيقي وراء إحجام الصالحين عن المعاصي والآثام.
وقد دل الواقع على أن تأثير الضمير الحي أبلغ من الضابط الاجتماعي المتمثل في العادات والتقاليد ، فإنها لا تصمد أمام المغريات بغير الوازع الداخلي من الضمير الحي، فهذه العادات المتوارثة والتقاليد تنهار برمَّتها أمام الغزو الثقافي الغربي الذي تمثل في ملابس النساء القصيرة التي غزت الأسواق العربية، فلبستها المرأة العربية كاشفة عورتها دون حياء أو خجل. في حين نجد أن المرأة العربية المؤمنة لما هوتفيالمعصية عندما غفل ضميرها، هبت معترفة – بعد يقظتها- لطلب التطهر من آثار المعصية، رغم شدة العقوبة وصرامتها.
لقد ثبت يقيناً أن الضمير أقدر على ضبط السلوك الإنساني من أي ضابط آخر، فالإنسان أشد ميلاً إلى الحكم الداخلي الذاتي، وأكثر تأثراً بوخز الضمير من مجرد نقد الآخرين .
الحلقة السابعة
11ـ تنمية شعور الفتاة بالرقابة الذاتية:
إن قناعة الفتاة بأن التكاليف في التصور الإسلامي: معاناة، وكدح وجهد، ومجانبة للراحة، وأنها رقابة دائمة على الجوارح والنوازع أمر ضروري لتربية الفتاة، هذا الإدراك للتكاليف مع القناعة التامة بالأحكام، كالتحريم والتحليل ونحوهما ضروري بحيث تصل هذه القناعة إلى الجذور القلبية عند الفتاة، فإن مجرد مخالفة الأمر مرة أو مرتين كاف للشعور بالإثم والندم إلى درجة لا تحتاج فيها الفتاة إلى رقابة الوالدين، أو غيرهما من المربين. وفي الجانب الآخر: لو كانت هذه المراقبة صارمة دون قناعة ذاتية داخلية، فإن الأمراض والأزمات النفسية ، والمعاناة قد تهدد الفتاة.
ومن هنا فإن إحياء ضمير الفتاة كاف للقيام بدور الرقابة عليها: فلا يُحتاج إلى كثير جهد في توجيهها، فإن الشعور بالإثم كاف للتأديب والردع. ثم إن راحة نفسها، واطمئنان قلبها بموافقتها ضميرها، واجتناب مخالفتها له يحمل للفتاة – في الجانب الآخر – قدراً كبيراً من التأييد والثواب. إلا أن الضمير لا يصل إلى درجة الفعالية المطلوبة إلا بالتدريب، فإن كلَّ شيء من قوى الإنسان المادية أو المعنوية تقوى بالمران، وتضعف بالإهمال ، فقوى البدن تقوى وتنمو بالرياضة، وقوى العقل تقوى وتنمو بالتأمل والاطلاع، وحل المشكلات، "والضم ير في ذلك شأنه شأن البدن والعقل، يقوى بالتربية ويضعف بالإهمال، وتتمثل تقويته في صورة اتباع أوامره والخضوع لها، بحيث لا يخالف الإنسان صوت ضميره"، فإن وقع في المخالفة أثار الضمير الحي في النفس: الشعور بالندم، وبالتالي يدفعه هذا الشعور إلى شيء من الحماس الديني، والتوجه إلى الله تعالى، مما يدل على أن الضمير في حد ذاته ذخيرة تربوية عظيمة، ووسيلة فعَّالة لإحياء جانب الإيمان بالله تعالى في نفس الإنسان.
12ـ دور الإيمان بالله في توحيد نوازع شخصية الفتاة :
يقوم التصور الإسلامي على مبدأ التوحيد الذي يتمثل في توحيد جهة التَّلقِّي ، وتوحيد جهة التوجُّه، وهي مضمون قوله تعالى: { إياك نَعْبُدُ وإياك نَسْتَعِين ُ } [الفاتحة:5] وهي أيضاً مضمون كلمة التوحيد العظمى: "لا إله إلا الله" والتي تحمل أبلغ صيغ حصر الألوهية لله تعالى وحده، فالقاعدة التي تقوم عليها العقيدة الإسلامية: "أن الألوهية واحدة لا تتعدد: هي ألوهية الله سبحانه، والعبودية تتمثل في كل ما وراء ذلك" فإن أكبر أصول عقيدة الإسلام: وحدانية الله تعالى، وأن جميع المخلوقات من أشرفها إلى أدناها عبيده، فهي ألوهية يتفرد بها الله U، وعبودية يشترك فيها كل ما سوى الله من الخلائق دون استثناء، وهذه قاعدة الكون، حيث خص الله نفسه بالوحدانية ، وجعلها دليلاً عليه، وجعل قاعدة الخلق هي الازدواجية .
ومن هنا فإن إعلان الشهادتين في حقيقته: "إشهار وتسجيل للانتماء الإرادي إلى الأمة الربانية بعد الإيمان بمبادئها الفكرية والاعتقادي ة العظمى ، وعناصرها التفصيلية، والتزام بإسلام القياد في مسيرة الحياة لله الرب الخالق الباري… ثم لرسوله المبلغ عن ربه"، مع الإدراك بأن أي تلقٍّ من غير هذا المصدر الوحيد، أو إرادة غيره بالعمل ، يعد خروجاً عليه يستلزم العقوبة، قال الله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [النساء:116]، وقال رسول الله r : ( لا طاعة لبشر في معصية الله) وقال أيضاً : من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله : حرم ماله ودمه...).
إن هذا التوجُّه للشخصية الإنسانية يسري ليشمل كل جوانب الحياة، بكلياتها وجزئياتها، بل حتى خلجات النفس وهواجسها، فضلاً عن الشعائر التعبدية، والأفكار والتصورات والمشاعر والعواطف التي تصدر عن الإنسان، كل ذلك يدخل ضمن مفهوم العبودية لله تعالى وتوحيده.
وقد عبَّر ابن تيمية رحمه الله عن معنى العبادة بصورة دقيقة فقال: هي "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"، وعلى هذا الفهم تكون الجزئيات – فضلاً عن الكليات – مرتبطة برباط وثيق بأصل العقيدة، كما ينبعث من الأصل الاعتقادي روح فعالة يسري في كل جوانب النشاط الإنساني – الظاهر والباطن، العظيم والحقير – ليحكمه بالإرادة الإلهية المطلقة. وقد عبر رسول الله r عن هذه القضية الكبرى بمثال يهدم كل فكرة، أو تصور يروم إخراج أيِّ جزء من سلوك الإنسان، أو تصوراته ومعتقداته – مهما كان صغيراً- من مفهوم الدين والتوحيد والعبودية، فقال: "…. وفي بضع أحدكم صدقة …" فلم يترك u حتى هذه الجزئية التي قد يغفلها البعض ويخرجها عن مجال العبادة والتوحيد.
هذا التصور لتوحيد النوازع الإنسانية المختلفة يبعث في نفس الفتاة – مع الاطمئنان والسكينة النفسية- توحيد الشخصية ، ومعرفة الهوية في سنٍّ تتعرض فيها لتغيرات نفسية وجسمية وعاطفية كبيرة، وتقلبات في المشاعر والأفكار والاتجاهات ، تسعى من خلالها باحثة عن هويتها الذاتية، لتستقر عليها، فيأتي هذا الأثر الإيماني المنبعث من الإيمان بالله تعالى ليضبط هذه المشاعر والاتجاهات ، ويوحِّد مسارها إلى الله تعالى في منهج إيماني متكامل.
الحلقة الثامنة
13ـ ربط أحكام القرآن بالعقيدة في نفس الفتاة :
إن ارتباط الأحكام بأصل العقيدة من وسائل تنمية الإيمان بالكتاب، إذ ترى الفتاة عند تطبيقها للأحكام الاتصال الوثيق بين العقيدة والنظم، بحيث تسوقها العقيدة إلى النظام، ويدلُّها النظام –بجزئياته المختلفة وأحكامه المتنوعة- على الجذور العقدية، فتكون كل التصورات والأحكام والتشريعات مرتبطة كل الارتباط بالمعتقدات ، ومشوبة دائماً بالأصول الإيمانية، فعندما أمر الله تعالى المؤمنين بإقامة الحد على الزناة ربطه بالإيمان حتى يكون أحفز على الأخذ به، فقال U : { الزانية والزاني فَاجْلِدُوا كل وَاحِدٍ منهما مئة جَلْدَةٍ وَلَا تأخذكم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُون َ بِاللَّهِ وَالْيَوْم ِ الْآخِرِ وليشهد عذابهما طَائِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } [النــور:2]، فربط I إقامة الحد بعقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر. وكذلك عند الحديث عن بعض أحكام الطلاق والواجب فيه قال I : { ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } [الطلاق:5] فربط هذه الأحكام بأصل العقيدة أيضاً، وكذلك قوله r : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر ...) فالعقيدة في كل الأحكام هي الأساس للتطبيق، والدافع للممارسة والعمل.
ومن هذا المنطلق لفهم أحكام الكتاب تلمس الفتاة المسلمة عند تطبيقها لأحكامه – في كل جزئية منه وكلية- ارتباطها الإيماني الوثيق بأصل العقيدة في الله تعالى، وصدور الأحكام عن الإرادة المطلقة للشارع الحكيم، مما يكون أبلغ، وأعمق في إقناعها بالتشريع ومن ثمَّ العمل به.
ثم إن تكرار الممارسة، وكذلك محاولة الاجتهادفيالتطبيق: يساعدان على تقوية الإيمان بالكتاب من جهة، ويعينان على نمو فقه الكتاب من جهة أخرى حتى يصبح مُقْنعاً للعمل والممارسة؛ إذ لا يُتصور أن ينمو الفقه الإسلامي بعيداً عن ممارسته في واقع الحياة المعاصرة، وإنما يثمر من خلال إعماله في مجالات الحياة المختلفة، وآفاقها المتعددة ، والرجوع إليه في جميع الممارسات الحياتية اليومية، حتى يصبح جزءاً أصيلاً في حياة الأمة.
14ـ ربط سلوك الفتاة بعقيدة اليوم الآخر :
إن ارتباط السلوك البشري في الحياة باليوم الآخر، وما يتصل به من ثواب وعقاب: يُعد من أعظم وسائل تقوية الإيمان بيوم القيامة، فإذا علم المكلَّف أنه مجاز بعمله في الآخرة: كان ذلك حافزاً له لاستحضار ذلك اليوم في نفسه، ومساعداً له على تحسين العمل، وموافقة الشرع.
وتظهر هذه الحقيقة في القرآن الكريم حيث ربط الباري Iكثيراً من الأحكام بالإيمان به وبلقائه، فعند الحديث عن المطلَّقة –مثلاً– يقول U: {… وَلاَ يَحِلُّ لهن أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أرحامهن إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْم ِ الآخِرِ…} [البقرة:228]، فالمرجع في مثل هذه المسائل إليهن، إذ لا يعلم أحد على الحقيقة حصول الحيض، أو الحمل إلا من جهتهن، فعلق صدق إيمانهن بالله واليوم الآخر على صحة البيان وعدم الكتمان.
ويقول I في مسألة الحب والبغض، وعلاقة ذلك باليوم الآخر: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُون َ بِاللَّهِ وَالْيَوْم ِ الْآخِرِ يُوَآدُّون َ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَه ُ ….} [المجادلة:2 2] فوجه سبحانه المكلفين من المؤمنين إلى أثر الإيمان بالله واليوم الآخر وارتباطه الوثيق بمبدأ البراءة من المشركين.
وفي الجانب الاجتماعي وعلاقته باليوم الآخر يقول الرسول r- فيما رُوي عنه-( أيُّما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيُّما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيُّما مؤمن كسا مؤمناً على عري كساه الله من خضر الجنة ) فالربط بين العمل الصالح في الدنيا، وجزائه في الآخرة، حافز قوي للتحقق بالسلوك الاجتماعي الكريم.
ويقول u في الجانب الخلقي معلِّقاً ذلك السلوك بعقيدة اليوم الآخر: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته… ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) ويقول عليه الصلاة والسلامفيالجانب الاقتصادي: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذنَّ إلا مثلاً بمثل ) وفي الجانب الصحي أيضاً، في مسالة شرب النبيذ المتخمِّر يربطه رسول الله r بقضية الإيمان بالله واليوم الآخر، فقد قال أبو هريرة t: ( أتي النبي r بنبيذ جرِّ يَنشُّ، فقال: اضرب بهذا الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ) فحتى الشراب الممنوع إذا هُدِّدَ متعاطيه باليوم الآخر: كان له حافزاً قوياً على تركه.
إن هذا الاتصال الوثيق بين السلوك الدنيوي بمظاهره المختلفة ، وبين الإيمان باليوم الآخر يبعث في نفس الفتاة المؤمنة اندفاعاً قوياً نحو اليقين باليوم الآخر، لارتباط الأعمال الحياتية ومظاهرها به، حيث تلمس الفتاة ، وتستشعر قضية القيامة، ولقاء الله تعالى في كل سلوك تسلكه، وفي كل عمل تتعاطاه، بل وحتى في كل إرادة تنويها، وتقصد إليها.
بتمنلى ينال اعجابكم