{فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} أي فإذا جاءت عقوبة أُولى المرَّتين على اليهود من الإفساد أرسلنا عليكم عباداً لنا وهؤلاء العباد قيل أنهم: جالوت وجنوده قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخربوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفاً وقيل بُخْتَنَصَّر وهو الذي دخل ووجد دم نبي الله يحيى يفور فسألهم لمن هذا فكذبوا
فقتل أعداداً هائلة حتى اعترفوا أنه دم يحيى فأكمل السبعين ألفاً حتى سكن الدم وقيل بل سبعين ألفا مرتين وقيل بل قتل بختنصر أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وخرب بيت المقدس وذهب بالبقية إلى أرضه فاستعبدهم هناك في الذل والخدمة بالخزي والنكال والعقاب على ما فعلوا مائة عام وقيل أن بختنصر وجنوده كانوا عبادا مؤمنين لله وهم البقية الباقية من إتباع النبي يونس فهم من بلده وباقي عشيرته وقيل هم العمالقة (البدو الرحل المقاتلين) وكانوا كفاراً ولكنهم عبيد لله ففي قراءة {عَبِيداً لَّنَا}
فإن سأل سائل هل يصح أن يبعث الله الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه تكون الإجابة أن الله خلَّى بينهم وبين ما فعلوا ولم يمنعهم قيل هو ملك الموصل سنحاريب وجنوده أو قوم من أهل فارس وقالوا بل سلَّط الله عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس وأيا من كانوا فقد كانوا ذوي عدد وقوة في القتال فجاسوا خلال الديار وجاسوا إما هي وصف لما فعلوه أي أنهم تملكوهم ومشوا خلال ديارهم إذلالاً وتكبراً وقهراً أو مشَوا بين منازلهم يتجسسون أخبارهم ولم يكن قتال
وزاد البعض قليلاً فقالوا بل عاثوا وأفسدوا يقال: جاسوا وحاسوا فهم يجوسون ويحوسون إذا فعلوا ذلك وقد تكون جاسوا وصفاً لنتيجة تالية لما فعلوه بهم وهذا لمن قالوا بالتقتيل وقد حدث أكثر من مرة فقتلوهم وبلغ من تقتيلهم أنهم طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه؟ ليفعلوا لأن "الجوس" هو طلب الشيء باستقصاء فقد استقصوا في طلب قتلهم ويمكن أن تقول بلغة اليوم " تمشيط" الديار بحثا عنهم لقتلهم بعد أن قتلوا من قتلوا وقيل قتلوهم حيثما وجدوهم بين بيوتهم وفى شوارعهم أو في داخل مخادعهم وديارهم
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} و"الكَرَّة":الرجعة والدُّولة أي ثم بعد مرور سنوات أو وقت مقدور غيرنا الأحوال وبدلنا الحوادث وأظفرناكم بهم والخطاب مازال لبنى إسرائيل: وذلك حين قتل داودُ جالوتَ وعاد ملكهم إليهم
وحكي أن رجلاً دعا على «بختنصر» فقتله الله فبقتلُ بُخْتنصّر واستنقاذُ بني إسرائيلَ أُسراهم وأموالَهم ورجوعُ المُلْك إليهم ولكن لم تقم لهم دولة بذاتهم وقيل ذلك أنه لما ورِث بهمنُ بنُ إسفنديارَ المُلكَ من جدّه كشتاسفَ بنِ لـهراسب ألقى اللـه تعالى في قلبه الشفقةَ عليهم فردّ أُسراهم إلى الشام وملّك عليهم دانيال فاستولَوا على من كان فيها من أتباع بُخْتنصر وقيل بظهور كورش الهمذاني على بختنصر وقيل: قيض الله ملكاً آخر غزا أهل بابل واتفق أن تزوج الملك بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل فأخذوا ما كان في يد بختنصر من المال والأسرى
وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا أي صاروا أكثر عدداً وأموالاً وأنصاراً منهم بعد الانتقام منهم في المرة الأولى وكان ذلك بعد مدة من الزمن قدرها بعضهم بمائة سنة حين تاب بنو إسرائيل عن ذنوبهم ورجعوا عن الإفساد {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} فإن أحسنتم بفعل الطاعات فإنَّ ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات وإن أسأتم بفعل المحرمات فقد أسأتم إلى أنفسكم
فإن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات فإذا جاء وعد عقاب المرة الثانية أو وعد المرة الآخرة وهنا كما قيل في المرة الأولى أراء كثيرة للسادة المحدثين والعلماء أشهرها: بعثنا تطوس بن إسبيانوس الرومي مع جنوده ليجعلوا آثار الحزن ظاهرة في وجوهكم كما بكثير من كتب التفسير أو بعث الله عليهم قوماً ليسوءوا وجوههم فيظهر عليها أثر الحزن والقهر والمذلة بما استحقوا من العقاب
وعندها يدخل القاهرون الذين على أيديهم جاء العقاب المسجد أي بيت المقدس أو الأرض المقدسة فيستولون عليه أو يدمروه ويقهرونهم عليه ويملكونه من اليهود ثانية كما حدث مع العقاب أول مرة عندما دخله بختنصر وأصحابه وليتبروا ما علوا تتبيراً فيهدِّموا ويدمِّروا ما أقاموا وبنوا أو ما شيدوا وأنشأوا من البيوت أو المباني وقال بعضهم المرة الثانية هي مرة بختنصر إذ أن بختنصر غزاهم ثلاث مرات متتاليات وكانت ثالثتهم هي المدمرة {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} وإن عدتم للإفساد المرة الثالثة فإنه جلَّ وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم
فالوعيد إن تكرر الإفساد تكرر الانتقام ولم يبين سبحانه هنا هل عادوا للإفساد المرة الثالثة أم لا؟ ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلي الله عليه وسلم وكتم صفاته ونقض عهوده ومظاهرة عدوه عليه ومحاولة قتله كما ورد في السنة الشريفة إلى غير ذلك من أفعالـهم القبيحة فعاد اللـه للانتقام منهم تصديقاً لقولـه بأن سلط عليهم نبيه صلي الله عليه وسلم فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل والسبي والإجلاء وضرب الجزية على من بقي منهم وضَرْب الذلة والمسكنة وربما كانت الثالثة والرابعة أو أكثر فقد تكرر الفساد والعقاب والعودة إلى الله ورفع العقاب وتحسبن الإحوال ثم تدور الدورة فتكرر ذلك العديد من المرات والله أعلم بمراده في آياته