أحبتي أنا أهوى الكتابة و لي الكثير من الكتابات من خواطر و شعر هذه القصة هي قصة قصيرة و سرد لواقع اللاجئين الفلسطينيين فزت بها بالترتيب الأول على مستوى مدينتي و الآن سأشارك بها على مستوى بلادي و أحب أن تقرؤوها
ارتسمت ابتسامة حزينة على شفاهها، و قد شقّت طريقها بين دموع الحرقة التي بللت أوراقاً حملتها بيدها، أوراقٌ تحمل في طياتها حكاياتٍ عن حقٍ و أرضٍ اغتصبت،
و ديارٍ خلت من أهلها ،و لكنّ مفاتيحها عُلِّقت على صدور محبّيها ،فهي حُلِّيهم و هي دلالة الحق في وجودهم، هكذا جلست الجدة" أم أحمد" و قد أمسكت بيدها أوراقاً وسنداتٍ لأملاكها التي اغتصبت ،وعلّقت على صدرها مفتاح دارها البعيدة ،والتف حولها الأحفاد والأولاد، يستمعون لذكرى تناستها العقول والأذهان ،ولكنّ الحقَّ يأبى النسيان، فليست هذه المرة الأولى التي يستمعون فيها لتلك الذكريات الأليمة ،ولكنّهم يصرون على ذلك دائماً، فهم يحنِّون لموطنٍ لم يروه، و زيتونٍ لم يأكلوه، و بئرٍ لم يتزودوا منه، و شجرةٍ لم يستظلوا بظلها، و أرضٍ لم يحرثوها أو يزرعوها، يحلمون بعودة لذاك الوطن هناك حيث قلبوا صفحات التاريخ، وعادت بهم الأيام إلى حيث وقفت "أم أحمد" وهي في ريعان الشباب أمام بيتها ،تستمتع بنسيم الصباح مع رائحة الخبز والزعتر الذي أعدّته أمها للإفطار، وقد ارتسمت البسمة على شفاهها عندما رأت الطيور التي تحبها تحلق في السماء حرةً طليقة دون قيود، لقد كانت تعشق تلك الطيور عشقاً ليس له حدود كانت تركض خلفها مسرعة على الأرض، و لكنّها لم تكن تعلم آنذاك ما سبب حبّها لها أو ما الذي يدفعها لمراقبتها و التطلع على أسرار حياتها، وفجأة قطع انسجامها صوت أمّها عندما نادتها؛ لتساعدها في تجهيز طعام الإفطار، وبعد انصراف الجميع للعمل كالمعتاد تجلس "أم أحمد" مع أمّها ،لأداء أعمال البيت، ومن ثمَّ تذهب؛ لتجمع الحطب ؛لطهي طعام الغداء، وتأخذ الطعام لأخوتها وأبيها في الأرض هكذا كانت الحياة التي عشقتها "أم أحمد" و لطالما حنّت إليها، وحلمت بأن تمرّ بها دوامة الزمان ؛لترتمي في حضن أمّها كما اعتادت أن تفعل عندما تكون حزينة.
كانت" أم أحمد" تعيش حياةً سعيدة حتى جاء ذلك اليوم الذي لم تنسه الأجيال، ولم يمتحِ من ذاكرة التاريخ باستثناء بعض القلوب الميتة!!
استيقظت "أم أحمد" على صوت انفجارات مدوِّية، ورصاصٍ يسقط أغصان الزيتون الحية و يفني وجودها ؛ليمحو أعظم أثرٍ على حقّ الفلسطينيين في أرضٍ زرعوها.
استيقظت و قد أفزعها أنين أناسٍ يبكون و يتألمون، لم تعلم " أم أحمد" ما الذي يجري حتى دخل أباها الدار وهو يصرخ : تزوّدوا بالطعام ،والبسوا ثيابكم، خبّئوا أمتعتكم؛ لنرحل وقفت "أم أحمد" مذهولةً من هول الصدمة، و هي تقول: لماذا؟ لماذا؟!
صرخ الأب مرة ثانية في الجميع قائلاً: اليهود يجتاحون البلاد و أنتم تسألون لماذا؟ أسرعت" أم أحمد" تعين أمّها وهي لم تفهم بعد أيّ يهود، بل ولماذا نترك مكاننا ؟ لماذا نترك أرضنا و أوطاننا؟ وإلى أيّ مكانٍ سنرحل؟ فلن يحلّ أيّ مكان و لن تحلّ أيّ أرض مكانة الوطن في قلبها.
لملم الأب أوراقاً و سنداتٍ لدارٍ لطالما تاقت نفس" أم أحمد" إليها، وخرج الجميع من البيت سريعا بعد أن أغلقوا الباب بمفتاحٍ لازال شاهداً على الذكرى، ساروا حثيثاً وقد تعلّقت أنظارهم بذاك الباب حيث السعادة التي عاشوها، وأيام الطفولة التي قضوها، إلى أين؟ ليس ثمة إجابة ،في أيّ دربٍ يسيرون ؟ ليس ثمة إجابة، فلم يعد أمامهم إلا ذلك ولامناص من الفرار، ساروا وهم يسترجعون ذكرياتهم السعيدة يودّعون كل ما يجدونه في طريقهم من مواطنٍ أحبوها، يستندون إلى جذوع أشجارٍ لطالما أطعمتهم زيتوناً شهيا واستظلوا بظلها الوارف ،يستنشقون شذى الليمون الذي شُوِّب برائحة البارود، مرّوا على أرضهم ؛ليتعهّدوها بالري لآخر مرة ولكنّ مياه الري هذه المرة كانت دموع حرقةٍ و أسى على الفراق.
كان الجميع يسير في صمتٍ يقتطعه صراخ الأطفال وولولة النساء على بيوتٍ تركنهنّ دون موعدٍ محددٍّ للعودة أو اللقاء، لم يكن أحدٌ يعلم حتى الآن ما مصيره ،تمرّ الأيام و "أم أحمد" تسير وتسير كما يسير سائر الخلق في طريق لا تعلم له نهاية، تسير وتسير حافية القدمين على حصىً وأشواك ،تتساقط دموعها؛ حسرةً و ألماً عندما تسمع صراخ إخوتها من شدة الجوع والعطش ،فالزاد ينفذ، والخطر يلاحق، والحرّ يشتدّ، ترزح تحت الضيم و الظلم، وترى و تسمع ما ينفطر له القلب.
قضت "أم أحمد" في تلك الدرب الطويلة شهوراً و شهور، ليستقرّ بها الدرب أخيراً في أرضٍ لم تعهدها، ووطنٍ جديد ،وبيوتٍ من قماشٍ تصدق به الغرباء ،تعاني آلام المرض و تضطر للانتظار في طابورٍ طويل؛ لتحصل على كسرة خبزٍ تشبع جوعها أو شربة ماءٍ تطفئ حرقة ظمئها.
ولكن سرعان ما بنى ذاك الشعب الأبيّ عمرانه في أرض جديدة، ولكنّه يعلم أنه ليس إلا ضيفاً قد حلّ عليها و إن طالت الضيافة، فهناك الوطن حيث تركه وهناك الدار وقد أقوت من أهلها، ولازال الباب موصداً يبحث عن مفتاحه المحفوظ فهو الرمز و الدلالة على أنّهم عائدون عائدون!!
و مع كلّ يومٍ يمضي تقف أم أحمد على أطلال أرضهم الحبيبة لا يفصلها عنها سوى خطٍ خفيف حفر في الأرض ،ولكنّه خط الموت إذا اختُرِق تقف و هي تقلب صفحاتها العاتية ،تسترجع الذكريات، وتعِد بعودةٍ قريبة وإن لم تكن على أقدامها فستكون على أكتاف أحفادها!!