قال تعالى ـ: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِإبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صديقا نبيا **** إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَتَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا **** يَاأَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِيأَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا **** يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّالشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا **** يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَنيَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) مريم،الآيات 41 - 45
وفيـما يلـي تحلـيل لبعض جوانب هذا الإعجاز التربوي الفـذّ في مجـالات التربية، وهو ذلك المجال المتصل بأدوارالمعلم:
أولاً: استثارةالدافعية:
من المسلَّم به عند التربويين أنه (لا تعلُّمبدون دافعية) فالمعلم مهما بلغ من النبوغ والبراعة، لا يمكنه دفع طلابه إلىالتعلُّم إذا ما كانوا عنه معرضين، وفي العلم زاهدين، أما إذا توفر لديهم دافعداخلي يحفزهم فإنهم يُقبِلون على التعليم بعقول متفتحة، وقلوب واعية؛ لأن الدافعيةتبعث في النفوس طاقة انفعالية، وتتحول هذه الطاقة إلى نشاط محسوس. ويرتهن نجاحالمعلِّم في عمله بقدرته على استغلال دوافع تلاميذه من أجل تحريك نشاطهم وتعديلسلوكهم من أجل تحقيق أهداف يحدِّدها لهم.
وقد بدأ أبوالأنبياء إبراهيم ـ عليه السلامـ حواره مع أبيه بأن وضع له هدفاً يمسُّ حياته مسّاًمباشراً،وهو النفع أو المصلحة المبتغاة من عبادة الآلهة. فإذا كان الإله الذي يعبدهالمرء لا يسمع ولا يبصر؛ فكيف يمكنه أن يساعد من يعبدونه؟! أو يحقق لهم نفعا؟! أويدفع عنهم ضرراً؟!
بدأ إبراهيم حواره بإثارة النشاط العقلي عندأبيه؛ لكي يحرِّك عنده طاقة انفعالية تجعله يفكر بالصورة الصحيحة في تلك الأصنامالتي لا تسمع ولا تبصر.
ثانياً: استعمالالحوافز:
ينجح المعلم بقدر تمكُّنه من استعمال الحوافزمع طلابه، فإذا آنسَ فيهم شروداً، وعنادا، أو خروجاً على المألوف، أو صُدوفاً عنالتعليم، احتال لذلك بما يتوفر لديهم ولديه من حوافز مادية أو معنوية، كأن يعدُهمبمكافأة أو نزهة أو حفل أو ما شابه ذلكم ما تتوق إليه النفوس، وتنشط له الأبدان.
وسيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ بعد أنسعى إلى تنشيط عقل أبيه بالتفكير فيجدوى عبادة الأصنام،أدرك أن هذا التفكير عملية عقلية معقدة بالنسبة لإنسان جامدالفكر،فأراد أن يقدِّم له حافزاً يشجِّعه به على المضيّ في عملية التفكير، فأخبرهبأن ما منَّ الله به عليه من العلم سوف يجعله في خدمة أبيه،وأن أباه لو أطاعه،وأعملعقله فيما يعبد، لوصل إلى الحقيقة التي يتهرب منها، وهي أن هذه الأصنام التي ورثعبادتها عن آبائه وجدوده لا تنفع ولا تضرُّ، ولا بد أن لهذا الوجود خالقا يجل عنالتجسيم. وهذا الخالق ـ جل وعلا ـ هو الذي رزق إبراهيم العلم.
فسيدنا إبراهيم ـعليه السلام ـ في هذا النداء الثاني: {يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَالْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (مريم: 43) يحفز أباه على الدخول معه في دنيا الإيمان الصافي بالخالقالقادر.
ثالثاً: بسط الحقائق والتبصيربها:
ومن مهمات المعلم أن يبسط أمام طلابه حقائقالموقف التعليمي، ويبصِّرهم بما لتلك الحقائق من أبعاد مختلفة تتصل بهم، وبحياتهم،واهتماماتهم، ومصالحهم، حتى يحقق لهم بذلك البسط والتبصير القانون الذي يسميهالتربويون (قانون التعرُّف)؛ بمعنى أن المتعلِّم إذا كان ذا معرفة بعناصر الموقفالمراد تعلُّمه، فإن هذا يسهل عليه استيعاب هذا الموقف الجديد والتكيّف معه.وهذا مافعله سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ حين ربط لأبيه بين عبادة الأصنام، وعبادةالشيطان. وهذا أمر قد يغيب عن ذهن ذلك الأب الذي أعماه التقليد عن إدراك حقـائقالموقف الجامد الذي يقـفه من دعوة ابنه. فهو لا يدرك أن عبادته للأصنام ما هي إلاعبادة للشيطان في الحقيقة؛ لأن الأصـنام حجارة لا قدرة لها على التأثير في نفسهاولا فيغيرها. أما الشيطان فله سلطان على النفوس الضعيـفة، فهو الذي يسوِّل لها،ويزين لها، ويوسوس لها، وقد عصى ربه ـ سـبحانه وتعـالى ـ فمن أطاعه فقد أطاع عاصياًلله،فهو عاصٍ بالتبعية.
يتبع